.
اَلمِنْهَجُ النَّصِيحُ فِي دِرَاسَةِ الجَامِعِ الصَّحِيحِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد وعلى آل محمد وصحبه أجمعين.
أما بعد؛ فهذه رسالة إلى طلبة العلم من المشتغلين بالآثار والسنن، الراغبين في فتق معانيها، وحل غوامضها، والغوص على مشكلاتها، بينت فيها السبيل السليم لدراسة الجامع الصحيح لأبي عبد الله البخاري، وذلك لعظم منزلته، وعلو مكانته، وجودة مادته، فعليه المعول عند الفقهاء والمحدثين، وعند عتبته أنيخت رحال الساعين، وانتهت إليه فهوم المجتهدين، وغاصت على دقائقه وخباياه عيون الناظرين، وقصرت عن إدراكه عيون ألباب المحققين.
ولما كتب الله تعالى وقيض لي البدء في دراسة كتب الحديث، كان أول ما عزمت البداءة بدراسته وفهمه، كتاب الجامع الصحيح، لعموم بركته، وجزالة فضله، وسعة مضمونه، ولإجماع الأمة على أنه أصح كتاب بعد كتاب الله، وأن البدء به أولى، فوضعت منهجا متكاملا لدراسته ودرسه، وامتثلت السير عليه، فكان بحمد الله تعالى منهجا حسنا سديدا، آتى أكله، وأعطى ثمرته.
وهذا ما حداني إلى خط هذه الرسالة المستطرفة في بيان هذا المنهج، وإبرازه لطلبة العلم، علَّ الله تعالى ينفعهم به، ويجزيني على ذلك خير جزاء، وسأضعه هنا على أجزاء إن شاء الله تعالى.
واعلم رحمك الله؛ أن دراسة الجامع الصحيح كدراسة أي كتاب في الحديث مرتبٍ على أبواب الفقه، مشهورٍ بين أهل العلم، محظوظٍ بالعناية الكبيرة، وربطُ هذا المنهج - الذي أنا على وشك بيانه وعرضه - بالجامع الصحيح للإمام البخاري وقصرُه عليه، سوء فهم، فهو يصلح لأي كتاب مثله، كصحيح مسلم، والسنن الأربعة، والموطإ وغيرها من كتب الحديث المشهورة المخدومة، إلا أنه يحتاج إلى بعض الإضافات والتعديلات بحسب الكتاب المدروس.
ثم اعلم رحمك الله؛ أن دراسته - أعني الجامع الصحيح - دراسةً دقيقةً شاملةً واسعةً، بقصد الفهم والاستعياب لمحوياته ومعانيه وخباياه، لا تتم إلا بدراسة أشياءٍ ثلاثةٍ:
1. الأبواب: وهي تراجم الكتاب، وتتم دراستها من حيث: التركيب، والمعنى، والمناسبة، والعلاقة بالحديث، وغير ذلك.
2. الأسانيد: وتتم دراستها من حيث: الاتصال والانقطاع، والرفع والوقف، وتتبع الطرق، وجمع الروايات، ودراسة المتابعات والشواهد، وغير ذلك.
3. المتون: وتتم دراستها من حيث: اختلاف الألفاظ، وبيان المشكل، وشرح الغريب، والتوفيق أو الترجيح بين مختلف الحديث، وبيان الناسخ والمنسوخ، وفك المبهم، وبيان فقه الحديث، وما اشتمل عليه من الفوائد والفرائد، وغير ذلك.
فهذه الثلاثة بعضها من بعض، ولا تنفك إحداها عن الأخرى، بل هي بمجموعها كمال العلم، وتمام الفهم، وبلوغ المرام، ونيل المراد، من كتاب الجامع الصحيح.
وهذا المنهج مبني على أربع خطوات:
الأولى: جمع المصادر المعينة على الدراسة:
اعلم رحمك الله؛ أن دراسة الجامع الصحيح أو أي كتاب نحوه والتوسع فيها يتطلب حضور طائفة من المصادر والكتب المعينة على ذلك، وهي المفتاح الذي يفتح به الدارس باب الفهم السديد، والإدراك الرشيد، وهذه المصادر على كثرتها وتنوعها سأذكر طائفة منها مما هو مطبوع، حتى يستطيع الطلبة الوصول إليه، ولا أعرج على غيره، ثم سأذكر في ختام هذه الرسالة أهم هذه الكتب وأشهرها، وما يغني عن أكثرها، ترخيصا للطالب، ونأيا به عن الكثرة والمشقة.
• الكتب التي اهتمت بالجامع الصحيح:
وهي الكتب والمصادر التي تناولت الجامع الصحيح من كل أبوابه ومسائله وفصوله، وهي كتب الشروح، وما تعلق بها من الحواشي والتعاليق التي خدمت بها هذه الشروح، وسأذكر أهمها والمطبوع منها وكتب الشروح وتراجم الرجال فقط، أما المصادر الأخرى الجزئية الفرعية فسيأتي ذكرها في موضعها :
أولا: الشروح الكاملة المطولة:
1. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني (ت: 852 ﻫ).
2. أعلام الحديث شرح صحيح البخاري، لأبي سليمان الخطابي (ت: 388 ﻫ).
3. عمدة القاري في شرح صحيح البخاري، لبدر الدين العيني (ت: 855 ﻫ).
4. الكوكب الدراري في شرح صحيح البخاري، للكرماني (ت: 786 ﻫ).
5. التوضيح بشرح الجامع الصحيح، لأبي حفص ابن الملقن (ت: 804 ﻫ).
6. التوشيح بشرح الجامع الصحيح، لجلال الدين السيوطي (ت: 911 ﻫ).
7. إرشاد الساري بشرح صحيح البخاري، للقسطلاني (ت: 923 ﻫ).
8. مصابيح الجامع الصحيح، لأبي عبد الله الدماميني (ت: 827 ﻫ).
9. شرح صحيح البخاري، لابن بطال القرطبي (ت: 449 ﻫ).
ثانيا: الحواشي والتعليقات:
1. التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح، لبدر الدين الزركشي (ت: 794 ﻫ)، كتاب عام يشمل إيضاح الغريب، والإعراب، والإبهام وغير ذلك.
2. النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح، للطاهر ابن عاشور، وهو مستدرك على ما أهمله شراح الصحيح.
3. حاشية محمد عابد السندي على صحيح البخاري للسندي (ت: 1257 ﻫ).
وهناك كتب كثيرة جزئية اهتمت بأجزاء خاصة من الجامع الصحيح، فمنها التي اعتنت بالأبواب، أو بالأسانيد من جهة: وصل التعاليق، وتقييد المهمل وتمييز المشكل، وشرح الغريب، وفك مبهمات المتن والإسناد، وحل مشكل الحديث، والتي اهتمت بالمسائل اللغوية، والتي اهتمت بجمع الروايات واختلاف الألفاظ، فسيأتي ذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى، وسأذكر هنا كتب الرجال فحسب:
ثالثا: الكتب التي اعتنت بتراجم الرجال:
1. التعديل والتجريح لمن خرج عنه البخاري في الصحيح، لأبي الوليد الباجي (ت: 474 ﻫ).
2. الإشراف على أعلى شرف في التعريف برجال البخاري، لابن الشاط (ت: 723 ﻫ).
3. الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسداد، لأبي نصر الكلاباذي (ت: 398 ﻫ).
4. تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني (ت: 852 ﻫ).
5. تهذيب التهذيب، لابن حجر العسقلاني (ت: 852 ﻫ).
6. تهذيب الكمال لأبي الحجاج المزي (ت: 742 ﻫ).
7. الجمع بين رجال الصحيحين، لابن طاهر المقدسي (ت: 507 ﻫ).
8. تسمية من أخرج لهم البخاري ومسلم، لأبي عبد الله الحاكم (ت: 504 ﻫ).
الثانية: تقسيم المادة وترتيبها:
لا بد لطالب العلم وهو يدرس الصحيح أن يحضر نوع الدراسة التي هو على وشك تناولها، وهي إما دراسة مختصرة عابرة، أو دراسة تأن وتريث شاملة عامة لمضامين الكتاب وأجزائه، بقصد استيعابه وفهمه فهما كليا صحيحا سديدا.
وكما ذكرنا من قبل فهذه الدراسة التي أعرض منهجها بين يدي طالب العلم، هي دراسة شاملة على مدى بعيد جدا، قد تدوم سنوات طويلة، لكن ثمرتها بإذن الله تعالى كبيرة وضامنة غذا أحسن نهجها واتباعها، وروعي فيها الإشارات والتنبيهات التي تضمنها هذا المنهج، بإذن الله تعالى.
ولهذا فعلى طالب العلم ودارس الجامع الصحيح، أن يفرغ نفسه للدراسة، ولو بجزء يسير من وقته يوميا أو أسبوعيا، فيضع جدولا زمنيا معينا له على ضبط المادة وترتيبها، ثم يوزعها حسب قدرته واستطاعته العقلية والمعرفية والزمنية:
1. كأن يدرس مثلا بابا واحدا كل يوم، أو يومين، وهذا منهج حسن جدا لكنه عصي نوعا ما، حيث إن بعض الأبواب تتضمن ما يزيد على خمسة أحاديث أو أكثر، وربما تضمن حديثا من الطوال، ولا أنصح به طلاب العلم المبتدئين.
2. أو يوزع مادة الجامع الصحيح حسب الأحاديث، فيدرس كل يوم حديثا أو حديثين أو ثلاثة، أو كل يومين.. والأفضل أن يدرس يوميا ثلاثة أحاديث.. فهذا يقصر عليه مدة الدراسة إلا نحو ست سنوات، كما أنه ليس بالطويل الثقيل العصي، ولا بالمختصر الخفيف السهل، فهو بين ذلك إن شاء الله تعالى.
وربما وجد الطالب لنفسه منهجا آخر خيرا من هذا، يتفق مع مشيئته وإرادته، وهذا جيد، فالطالب أدرى بنفسه من غيره، ورب منهج صلح لهذا لم يصلح لذك، ورب منهج لم يصلح لهذا صلح لذاك.
* ملاحـظة:
هذا المنهج وهذه الدراسة يتطلبان المراجعة والمواظبة والتكرار، فالطالب لا يغفل عما يحصله، بل لا بد من حفظ المهم منه، ومدارسته ما تلقاه واستفاده مع أقرانه وأصحابه، حتى يترسخ ولا يتفلت، فالعلم صيد والكتابة قيده كما قيل، وهذا لعمري يجرني ويدعوني للإشارة إلى شيء مهم جدا:
الثالثة: كناشة الفوائد:
وهذا باب مهم جدا لا نغفل عنه، ولا بد من الإشارة إليه، وهو تقييد الفوائد والشوارد التي تعرض للطالب أثناء درسه للجامع الصحيح أو أي كتاب آخر، وهو شيء ما فتئ العلماء ينصحون به ويرغبون فيه، حتى قال ابن قتيبة (ت: 276 ﻫ) في فاتحة كتابه "عيون الأخبار": «ومن ترك أخذ الحسن من موضعه أضاع الفرصة، والفرصة تمر مر السحاب».
وروى الإمام أحمد (ت: 241 ﻫ) في "علله"، عن الشعبي (ت: 105 ﻫ) قال: «إذا سمعت شيئا فاكتبه ولو في الحائط».
وقال الإمام النووي (ت: 676 ﻫ) في "المجموع" وهو يرشد الطالب إلى كتابة الفوائد والفرائد ومطالعتها: «ولا يحتقرن فائدة يراها أو يسمعها في أي فن كانت، بل يبادر إلى كتابتها، ثم يواظب على مطالعة ما كتبه...».
ونقل ابن رجب الحنبلي (ت: 795 ﻫ) من "الفنون" لأبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي (ت: 513 ﻫ) أنه قال عن نفسه: «أنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز؛ لأجل ملإ بينهما من تفاوت المضغ؛ توفرا على مطالعة، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه».
وذكر ابن الأبَّار (ت: 658 ﻫ) في "معجم أصحاب الصدفي" في ترجمة العلامة أبي القاسم ابن ورد التميمي (ت: 540 ﻫ): «أنه كان لا يؤتى بكتاب إلا نظر أعلاه وأسفله، فإن وجد فيه فائدة نقلها في أوراق عنده، حتى جمع من ذلك موضوعا».
وذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة الإمام الزركشي (ت: 794 ﻫ) صاحب "البحر المحيط": «أنه كان يتردد إلى سوق الكتب، فإذا حضره أخذ يطالع في حانوت الكتبي طول نهاره، ومعه ظهور أوراق يعلق فيها ما يعجبه، ثم يرجع فينقله إلى تصانيفه».
وقد جمع طائفة من العلماء هذه الفوائد والتعليقات في كتب مفردة كابن عقيل الحنبلي في كتابه "الفنون"، ومحمد بن محمود ابن النجار (ت: 643 ﻫ) في كتابه "عيون الفوائد" وأحمد بن علي المقريزي (ت: 845 ﻫ) في كتابه "مجمع الفوائد ومنبع الفرائد" في نحو من مائة مجلد، وغيرها من الكتب الكثيرة.
* منهج تقييد الفوائد:
سارت الأخبار وتناقلت أن أهل العلم كانوا يقيدون الفوائد والفرائد في هوامش الكتب وحواشيها، ونجد ذلك في هوامش بعض المخطوطات دليلا، وكان هذا ديدن العلماء والحفاظ في القديم وما زال الأمر كذلك في الحديث، وهذا شيء حسن جدا؛ لأنه يوفر عليك عناء البحث عن الفائدة إذا احتجتها في موضعها، ثم إنك إن أعدت قراءة الكتاب تجد الفائدة قريبة منك، حيث تريدها وتحتاجها، ومنهم من كان يفرد لذلك كتابا خاصا يدون فيه فوائده، وهذا أمر حسن أيضا.
والتعامل مع الفوائد يكون بثلاثة أمور: (النقل - التحقيق - الاستدراك) فمن الفوائد ما ينقل، ومنها ما يحقق، ومنها ما يستدرك. والمنقول منه ما يراجع، ومنه ما يحفظ.
فلك أن تأخذ مثلا مذكرة وقلما - والأفضل أن تكون المذكرة مرقمة الصفحات - ثم أنت تقرأ الكتاب، فإذا رأيت فائدة تستحق الكتابة نقلتها، وكتبت قبالتها في حاشية الكتاب الأصل الذي هي فيه (نقلت، المذكرة، ص:...) فاذا كان مما يراجع كتبت (نقلت للمراجعة، المذكرة، ص:...)، وإذا كان مما يستحق أن يحفظ في الذهن كتبت (نقلت للحفظ، المذكرة، ص:...)، وإذا رأيت مسألة تستحق التحقيق حققتها، وكتبت في حاشية الكتاب الأصل (تحقق، المذكرة، ص:...)، وإذا رأيت كلاما يستحق الاستدراك استدركت عليه في مذكرتك وكتبت في حاشية الأصل (مستدرك، المذكرة، ص:...).
فعندنا أربع عبارات:
1. (نقلت للحفظ، المذكرة، ص:...) = للفوائد التي تنقل في المذكرة وتستحق الحفظ في الذهن.
2. (نقلت للمراجعة، المذكرة، ص:...) = للفوائد التي تنقل في المذكرة من أجل المراجعة، والاستفادة منها فقط.
3. (تحقق، المذكرة، ص:...) = للفوائد والمسائل التي تشكل على القارئ، فينقلها في المذكرة من أجل أن يحقق الكلام فيها، بالرجوع إلى مصادر أخرى، أو سؤال أهل العلم والاختصاص.
4. (مستدرك، المذكرة، ص:...) = للفوائد التي تستدركها على المصنف أو المحقق أو المحشي، فربما تجد استدراكا فلا بد أن تدونه، كما لو أنك تقرأ تخريجا للحافظ في "نصب الراية" - مثلا -، فتجده خرج الحديث من طريقين فقط، ثم تبين لك بعد النظر أن له طريقا ثالثة أخرى لم يذكرها الحافظ فتستدركها.
إنا نفرد للفوائد والفرائد مذكرة خاصة؛ لأن أغلب حواشي الكتب المطبوعة اليوم صغيرة، والهوامش مملوءة بتعليقات المحققين، فإذا قرأت الكتاب ووصلت إلى مسألة أشكلت عليك، وجدت مقابلها في الحاشية (تحقق، المذكرة، ص:...)، فترجع إلى المذكرة وتوضح المشكل.
- أما كيفية الكتابة في المذكرة، فمن الأفضل أن تعنون الفائدة (تضع العنوان - ثم تكتب الفائدة - ثم تضع في الأخير مصدرها باسم الكتاب ورقم المجلد والصفحة جهة اليسار)، ومثال ذلك:
(المذكرة)
فائدة في معنى الحزب من الليل
«الحِزْبُ بِكَسْرِ الْحَاء المُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ: الوِرْدُ. وَالمُرَادُ هُنَا الوِرْدُ مِنْ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: المُرَادُ مَا كَانَ مُعْتَادَهُ مِنْ صَلاَةِ اللَّيْلِ».
(نيل الأوطار - ج 3 - ص: 49)
(الكتاب الأصل: نيل الأوطار)
كتبتُ بالهامش قبالة هذه الفائدة: (نقلت للمراجعة، المذكرة، ص: 21)
الرابعة: الدراســــة:
ثم اعلم رحمك الله تعالى وبارك فيك ورضي عنك؛ أنه لا بد قبل البدء في هذه الدراسة من الإشارة إلى نسخ الجامع الصحيح، وأصح وأفضل هذه النسخ، ومن أفضلها الطبعة الأميرية وهي أحسن الطبعات، تم مقابلتها على نسخة اليونيني التي تعد أصح نسخ الصحيح، وفائدتها أنها تذكر اختلاف الروايات في الأبواب والأسانيد والمتون، واعتنت بهذا الباب عناية حسنة، وإن فاتها شيء قليل من ذلك، وقد استدركهشراح الجامع الصحيح، وعلى كل حال فهي أجود النسخ وأصحها وأكثرها فائدة، وجمعا لاختلاف الروايات والنسخ، ولن أشير إلى روايات الجامع الصحيح وعددها ومزايا، فهذا موضوع متناول في هذا الملتقى بشكل حسن جميل، فليبحث عنه.
ولما قدمنا بين يدي هذا المنهج بخطوتين هامتين ببيان الحاجة إلى المصادر وأنوعها، وضرورة تهذيب المادة وترتيبها، آن أوان الشروع في المقصود، وهو بيان المنهج العام لدراسة الجامع الصحيح، بالأمثلة والنماذج الموضحة والمبينة له، بعد أن اكتملت لنا أدواته ومطالبه، وهو كالتالي:
أولا: دراسة الأبواب:
لقد برع البخاري رحمه الله في سبكها، وأجاد في نظمها، وما زال أهل العلم يقفون عندها بالشرح والبسط، وحل غوامضها وألغازها، وما وسعهم ذلك ولا أحاطوا به، وفي ذلك يقول أحدهم:
أعيا فحول العلم حل رموز ما **** أبداه في الأبواب من أسرار
وأما دراسة الباب فتتم كما ذكرت سابقا من حيث اختلافها باختلاف نسخ الكتاب، وطريقة تركيبها، ومعناها، ومناسبتها، وعلاقتها بالحديث تحتها.
أ- من حيث الاختلاف فيها:
كثيرا ما يجد الدارس لصحيح البخاري اختلافا كبيرا في تراجمه وأبوابه باختلاف نسخ وروايات الكتاب، ولقد أشرنا إلى هذا الاختلاف، وذكرنا أنه هذا الخلاف طال الأبواب والأسانيد والمتون، والاختلاف في الأبواب يكون إما بالثبوت والنفي، أو الزيادة والحذف، أو الاختلاف في تركيب الألفاظ، أو الاختلاف في ضبطها.
ومثال الثبوت والنفي: في قوله (باب إذَا قَالَ أحدُكُمْ آمِينَ والمَلائِكَةُ فِي السَّماءِ فَوافَقَتْ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ). قال القسطلاني في عمدة القاري: «قالوا: ليس لذكر هذا الباب هنا وجه، لأن جميع أحاديث هذا الباب في ذكر الملائكة، وهو متصل بالباب السابق - يعني: (باب ذِكرُ الملائِكةِ صَلَواتُ اللهِ عَليهِمْ) - ولهذا لا يوجد هذا في كثير من النسخ، وكذا لم يقع في رواية أبي ذر ذكر هذا الباب». والأمثلة كثيرة جدا.
ومثال الزيادة والحذف: كزيادة بعض الألفاظ، او حذف بعضها، او سقوط ترجمة كاملة من بعض النسخ، قوله (باب متى يصح سماع الصغير)، كذا عند أكثر الرواة، وزاد الكشميهني: الصبي الصغير. وكذا قوله (الحُورُ العِينُ وَصِفَتُهُنَّ)، قال الحافظ في الفتح: «كذا لأبي ذر بغير (باب) وثبت لغيره، ووقع عند ابن بطال (باب نزول الحور العين وصفتهن)»، ومن امثلة سقوط ترجمة كاملة قوله (باب من تصدق إلى وكيله ثم رد الوكيل إليه) قال الحافظ: «هذه الترجمة وحديثها سقط من أكثر الأصول»، والأمثلة كثيرة جدا.
ومثال الاختلاف في تركيب الألفاظ: قوله (بَابُ كِتابَةِ الإمامِ النَّاسَ) وورد في بعض النسخ: (للنَّاسِ) وهي أصح اللفظين عند الحافظ اليونيني. وكذا قوله (بابٌ أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ مُجَاهِدٌ)، في رواية الكشميهني: يُجَاهِدُ، بلفظ المضارع، حكاه في الفتح.
ومثال الاختلاف في ضبط الألفاظ: قوله (بابٌ أَدَاءُ الخُمُسِ منَ الإيمَانِ)، هو بضم الخاء المعجمة أي خُمُسُ الغنائم كما ورد في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ). وروي: بفتح الخاء، أي: قواعد الإسلام الخمس، حكاه في الفتح.
ب- من حيث طرق تركيبها:
ذكرنا من قبل أن عبقرية الإمام البخاري امتثلت في تراجم كتابه، حيث وضع فقهه واستنباطاته فيه، ووسع القول وبسط الخلاف الفقهي فيه أيضا، مع الإيجاز الشديد، والعرض السديد، وحسن السبك والصوغ.
والمتأمل بنظر دقيق شديد في تراجمه يجدها على أنواع، وذلك حسب الحاجة، ومحل الورود، وكيفية العرض، وقد اجتهد بعض أهل العلم في بيان أنواعها، فابتدأ ذلك الحافظ في "هدي الساري" فقسمها إلى نوعين: ظاهرة وخفية، ولم يفصل ذلك، ثم جاء بعده ولي الله الدهلوي في كتابه "شرح تراجم أبواب البخاري"، فأشار إلى بعض أنواعها مع إعواز فيه، وحاول أيضا بعض طلبة العلم المعاصرين أيضا تحديد أنوعها فجعلها أربعة أنواع، وحاولت جهدي البث فيها أيضا ودراستها وتحديد أنواعها، فتبين لي أنها على أنواع ثمانيةٍ:
- الترجمة الظاهرة: وهي الترجمة المطابقة لمتن الحديث، وهي الأغلب في الجامع الصحيح، ومثالها: قوله (باب الظلم ظلمات يوم القيامة)، وساق تحتها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (الظلم ظلمات يوم القيامة).
- الترجمة الفاصلة: وهي كقوله (باب) أو (باب كذا)، وهي بمنزلة الفصل عما قبله، ومثالها: قوله (باب استعمال فضل وضوء الناس)، وفيه حديث أبي جحيفة في أخذ الناس من فضل وضوء رسول الله وتمسحهم به، وحديث المَجَّةِ أيضا، قال عقيبه كما في رواية المستملي: (باب كذا) وعند وأبي ذر وأبي الوقت (باب)، ثم ساق حديث السائب بن يزيد وهو بمعنى الحدثين السابقين. قال الحافظ: « إن ثبت لفظ باب بلا ترجمة فهو بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله فلا بد له من تعلق به وإن لم يثبت فتعلقه به متعين»، وقال أيضا: «الباب إذا لم تذكر له ترجمة خاصه يكون بمنزلة الفصل مما قبله مع تعلقه به».
- الترجمة المستنبطة: وهي التي تستنبط من متن الحديث، إما استنباطا جليا يظهر أثره في الترجمة، أو خفيا يدرك من خلال التأمل في الحديث الذي ساقه تحتها، وهي محل عبقرية الإمام رحمه الله تعالى ورضي عنه، ومن أمثلة ذلك قول الحافظ في (باب الأجير للأجير في الغزو): «قال المهلب: استنبط البخاري من هذا الحديث جواز استئجار الحر في الجهاد». وقال أيضا في (باب النظر إلى المرأة قبل التزويج): «استنبط البخاري جواز ذلك من حديثي الباب لكون التصريح الوارد في ذلك ليس على شرطه». وقال أيضا في (باب استعانة اليد في الصلاة): «قال ابن بطال: استنبط البخاري منه أنه لما جاز للمصلي أن يستعين بيده في صلاته فيما يختص بغيره كانت استعانته في أمر نفسه ليتقوى بذلك على صلاته وينشط لها إذا احتاج إليه أولى».
- الترجمة المفردة: وهي ترجمة يأتي بها رحمه الله ولا يورد تحتها من الحديث شيئا، وغالبا ما يذيلها بالآيات والتعاليق، ومثالها: ما ورد في كتاب العلم من قوله (باب فضل العلم، وقول الله تعالى: ﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير﴾ وقوله عز وجل: ﴿وقل رب زدني علما﴾)، ولم يذكر تحته شيئا من الحديث، قال الحافظ في الفتح: «فالجواب أنه إما أن يكون اكتفى بالآيتين الكريمتين، وإما بيض له ليلحق فيه ما يناسبه فلم يتيسر». وقوله (باب إماطة الأذى) وقال همام: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يميط الأذى عن الطريق صدقة»)، ولم يذكر تحته غير هذا التعليق. وربما ذكر الترجمتين متتاليتين ليس تحتهما حديث.
- الترجمة الشرطية: وهي التي ترد بأسماء الشرط، وربما ساق معها جواب الشرط، وربما لم يسقه، فأما التي بجواب الشرط فمثالها: قوله (باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة، لم تفسد عليه صلاته)، وأما التي بغير جواب فهي كقوله (باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان).
- الترجمة الاستفهامية: وهي التي ترد استفهاما، وهي تفيد التزاما أن في المسألة خلافا قائما، وهذا من الدقة والأمانة التي اتصف بها البخاري رحمه الله، ومثالها: قوله (باب هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيه؟)، وقوله (باب من أين تؤتى الجمعة، وعلى من تجب؟).
- الترجمة الخبرية: وهي التي ترد بصيغة الخبر، ولا يذكر فيها الحكم، وإنما يكتفي بدلالة الحديث عليه، ومثالها: قوله (باب السؤال والفتيا عند رمي الجمار)، فلم يذكر حكمه من الجواز أو المنع، وإنما اكتفى بالإخبار، واقتصر على دلالة الحديث على الحكم، وهو الجواز.
- الترجمة القرآنية: وهي التي يكتفي البخاري فيها بإيراد آية قرآنية، دون تفسير أو بيان أو سوقها مساق الاستدلال، وهي غالبا ما ترد في باب التفسير، أو سبب النزول، أو مكان النزول، فمما ورد في التفسير قوله: (باب ﴿ولم يلبسوا إيمانهم بظلم﴾، وساق فيها حديث ابن مسعود (لما نزلت: ﴿ولم يلبسوا إيمانهم بظلم﴾ قال أصحابه: وأينا لم يظلم؟ فنزلت: ﴿إن الشرك لظلم عظيم﴾). ومما ورد في أسباب النزول قوله: (باب قول الله عز وجل: ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلا﴾، ثم ساق تحتها حديث عبد الله بن مسعود أن نفرا من يهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح فنزلت عليه الآية. ومما ورد في بيان مكان النزول قوله (باب قوله ﴿يسألونك عن الأنفال، قل: الأنفال لله والرسول، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم﴾)، وساق فيها حديث سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: سورة الأنفال، قال: (نزلت في بدر).
وقد أشار السيوطي رحمه الله في "التوشيح" إلى منهجه في تراجمه، وأشار إلى بعضها، كالترجمة الاستفهامية، وربما وجد هناك أنواع أخرى من التراجم، غاب عني إدراكها ومعرفتها، فالقصور من طبع البشر، ولا يتأتى الاستقصاء لأحد، وأما الاستقراء التام فهو من نصيب الأئمة المجتهدين، والحذاق المحققين، فلئن زعمته فأنا كالحادي ليس له بعير.
ت- من حيث مناسباتها:
أما مناسبات التراجم لأحاديثها فهذا باب عني المحدثون قديما وحديثا، وصنفوا فيه الكتب، وقد ذكرت جملة منها في كلامنا على المصادر المعينة على الدراسة الصحيحة فلينظر، والغرض من هذه العناية إبراز العلاقة بين الحديث وترجمته، وبيان وجه مناسبته لها، خاصة وأن تراجم الإمام البخاري لها مكانتها وقيمتها الفقهية والحديثية كما هو معلوم عند أهل الفن.وإنما يحتاج إلى بيان هذه المناسبات إذا كانت الترجمة عصية الفهم، بعيدة المسلك، ليس بينها وبين الحديث في الظاهر ارتباط، فيصعب على طلبة العلم إدراكها، ومعرفة وجهها، ومن أمثلة ذلك:قوله (باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الله جل ذكره ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيئِينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾)، وساق تحتها حديث الأعمال بالنيات، فالظاهر تعذر بيان المناسبة بين الحديث والباب، وقد اجتهد أهل العلم في بيانها، ومن ذلك قول الحافظ: « وقد صدر الكتاب بترجمة بدء الوحي وبالحديث الدال على مقصوده المشتمل على أن العمل دائر مع النية فكأنه يقول: قصدت جمع وحي السنة المتلقى عن خير البرية على وجه سيظهر حسن عملي فيه من قصدي وإنما لكل امرئ ما نوى».ونقل السيوطي عن الزركشي قوله في ذلك: «ومن محاسن ما قيل في تصدر الباب بحديث النية تعلقه بالآية المذكورة في الترجمة؛ لأن الله تعالى أوحى إليه وإلى الأنبياء من قبله أن الأعمال بالنيات؛ بدليل قوله: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، وقصده بذلك: أن كل معلم أراد بعلكه وجه الله ونفع عباده؛ فإنه يجازى على نيته».وقال ابن جماعة في حديث الأعمال بالنيات: «وجه ابتدائه مع بعده عن معنى الترجمة؛ ابتداء الكتاب بحسن القصد والنية لنفسه وللداخل فيه وللشارع فيه...».* ومن الكتب التي اهتمت بهذا الباب:- مناسبات تراجم البخاري لابن جماعة.- المتواري على أبواب البخاري لابن المنير.ث- من حيث شرح غريبها:
وقد أورد الإمام البخاري رحمه في تراجم كتابه من الألفاظ بعض غريبها ومختلفها، وعني ببيانها وتفسيرها شراح كتابه، ومن أمثلة ذلك قوله (باب التسمية على كل حال وعند الوقاع)، قال الكرماني: «التسمية هي قول بسم الله، والوقاع الجماع».وقال السيوطي في قوله (باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم): «يدع: يترك، قول الزور: الكذب».وقد اهتمت كتب الشروح بهذه الجزئية.
ج- من حيث ضبط مفرداتها:
كذا وردت بعض المفردات المشكلة من حيث ضبطها، وتعدد أوجهها اللغوية، وما يترتب على ذلك من اختلاف في المعنى، ومثال ذلك قوله (باب لا تقبل صلاة بغير طهور)، قال الكرماني: «الطَّهور بفتح الطاء، الماء الذي يتطهر به، وبضمها الفعل الذي هو المصدر، والمراد به ههنا الوضوء».
وقال السيوطي في "التوشيح" في قوله (باب الريَّانُ للصَّائِمِينَ): «الريان: بفتح الراء وتشديد التحتية، فعلانٌ، من الريِّ، وهو مناسب لجزاء الصائمين».
وكتب الشروح اهتمت بهذا الباب كثيرا.
ح- من حيث بيان معانيها:
وهذه الغاية العظمى من دراسة الترجمة، معرفة المعنى المراد منها، ولقد اجتهد المحدثون في ذلك، فاهتموا بها وبسطوا معانيها وخباياها في شروحهم وحواشيهم، ومن أشهر من عني بذلك الحافظ في "الفتح"، والقسطلاني في "الإرشاد"، والسيوطي في "التوشيح"، والعيني في "العمدة"، والكرماني في "الكوكب".وذلك لأن البخاري بسيط فيها فقهه، وألغز فيها استنباطاته، وأبهم فيها ما وسعه فهمه واستدراكه، وهو ما أسبغ على كتابه رونقا من الجمال، وبراعة في السبك، وجودة في الصوغ، فصار مرتعا للناظرين المحققين، ومربضا لجهابذة المتفننين.ومن أمثلة ما بسطه أهل العلم المعتنون بكتابه شرحا وتحشية من معاني تراجمه، ما ذكره ابن المنير في "المتواري" في قوله (باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت): «المقصود الذي يشمل جميع ما ذكره في الترجمة، أن هذا الحدث الأكبر، وما في معناه من الجنابة، لا ينافي كل عبادة، بل صحت معه عبادات بدنية، من أذكار وتلاوة وغيرها، فمناسك الحج من جملة ما لا ينافيه الحدث الأكبر، إلا الطواف».وقال بدر الدين العيني في قوله (باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم): «ومعنى الباب: أن ما صح من الأنساب والرضاع والموت بالاستفاضة، وثبت علمه بالنفوس وارتفعت فيه الريب والشك أنه لا يحتاج فيه لمعرفة عدد الذين بهم ثبت علم ذلك، ولا يحتاج إلى معرفة الشهود».* ومن الكتب التي اهتمت بالأبواب:1. ترجمان التراجم على أبواب البخاري، لابن رشيد البستي (ت: 721 ﻫ).2. المتواري على تراجم البخاري، لابن المنيِّر الاسكندري (ت: 683 ﻫ).3. شرح تراجم أبواب البخاري، لولي الله الدهلوي (ت: 1176 ﻫ).4. مناسبات تراجم البخاري، لبدر الدين ابن جماعة (ت: 733 ﻫ).وكذلك كتب الشروح أفاضت في هذا الباب جدا.:#$%%: